فصل: تفسير الآيات (154- 155):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (154- 155):

{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)}
معنى هذه الآية أن موسى عليه السلام لما سكن غضبه أخذ الألواح التي كان ألقى، وقد تقدم ما روي أنه رفع أكثرها أو ذهب في التكسير، وقوله: {سكت} لفظة مستعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكوته، قال يونس بن حبيب: تقول العرب سال الوادي يومين ثم سكت، وقال الزجاج وغيره: مصدر قولك سَكَتَ الغضب، سكْت، ومصدر قولك سكت الرجل سكوت، وهذا يقتضي أنه فعل على حدة وليس من سكوت الناس، وقيل إن في المعنى قلباً، والمراد ولما سكت موسى عن الغضب فهو من باب أدخلت فمي في الحجر وأدخلت القلنسوة في رأسي، وفي هذا أيضاً استعارة، إذ الغضب ليس يتكلم فيوصف بالسكوت، وقرأ معاوية بن قرة: {ولما سكن}، وفي مصحف حفصة {ولما سكت}، وفي مصحف ابن مسعود {ولما صبر عن موسى الغضب}، قال النقاش: وفي مصحف أبيّ: {ولما اشتق عن موسى الغضب}، وقوله: {وفي نسختها} معناه وفيما ينسخ منها ويقرأ، واللام في قوله: {لربهم} يحتمل وجوهاً، مذهب المبرد أنها تتعلق بمصدر كأنه قال الذين رهبتهم لربهم، ويحتمل أنه لما تقدم المفعول ضعف الفعل فقوي على التعدي باللام، ويحتمل أن يكون المعنى: هم لأجل طاعة ربهم وخوف ربهم يرهبون العقاب والوعيد ونحو هذا.
وقوله تعالى: {واختار موسى قومه} الآية، معنى هذه الآية أن موسى عليه السلام اختار من قومه هذه العدة ليذهب بهم إلى موضع عبادة وابتهال ودعاء ليكون منه ومنهم اعتذار إلى الله عز وجل من خطأ بني إسرائيل في عبادة العجل وطلب لكمال العفو عمن بقي منهم، وروي عن علي بن أبي طالب أن اختيارهم إنما كان بسبب قول بني إسرائيل أن موسى قتل هارون حين ذهب معه ولم يرجع، فاختار هؤلاء ليذهبوا فيكلمهم هارون بأنه مات بأجله، وقوله: {لميقاتنا} يؤيد القول الأول وينافر هذا القول لأنها تقتضي أن ذلك كان عن توقيت من الله عز وجل وعدة في الوقت الموضع، وتقدير الكلام: واختار موسى من قومه، فلما انحذف الخافض تعدى الفعل فنصب، وهذا كثير في كلام العرب.
واختلف العلماء في سبب {الرجفة} التي حلت بهم، فقيل كانت عقوبة لهم على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل، وقيل: كانت على عبادتهم العجل بأنفسهم وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله، قاله السدي، وقيل: كانت عقوبة لهم لأنهم لما دنوا وعلموا أن موسى يسمع كلام الله قالوا له: أرنا ربك فأخذتهم الرجفة، وقيل: كانت عقوبة لتشططهم في الدعاء بأن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطيه أحداً بعدناً، فأخذتهم الرجفة، وقيل: إنما أخذتهم لما سمعوا كلام هارون وهو ميت، وذلك أن موسى وهارون ذهبا إلى التعبد أو نحوه فمات هارون فدفنه موسى وجاء فقالت له بنو إسرائيل: أين هارون؟ فقال: مات، فقالوا بل أنت قتلته لأنك حسدتنا على حسن خلقه وعشرته، فاختار السبعين ليمضوا معه حتى يروا برهان ما قال لهم، فلما وصلوا قال له موسى يا هارون أقتلت أم مت؟ فناداه من القبر بل مت فأخذت القوم الرجفة.
قال القاضي أبو محمد: وروي أنهم ماتوا في رجفتهم هذه، ويحتمل أن كانت كالإغماء ونحوه، و{الرجفة} الاهتزاز والتقلقل للهول العظيم، فلما رأى موسى ذلك أسف عليه وعلم أن أمر بني إسرائيل سيتشعب عليه إذا لم يأت بالقوم فجعل يستعطف ربه أي رب لو أهلكتهم قبل هذه الحال إياي لكان أحق عليّ، وهذا وقت هلاكهم فيه مفسد على مؤذٍ لي، ثم استفهم على جهة الرغبة والتضرع والتذلل، ويحتمل قوله: {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} أن يريد وقت إغضائهم على عبادة العجل اي وقت عبادتهم على القول بذلك وفي نفسه هو وقت قتله القبطي، أي فأنت قد سترت وعفوت حينئذ فكيف الآن إذا رجوعي دونهم فساد لبني إسرائيل، فمنحى الكلام على هذا محض استعطاف، وعلى التأويل الأول منحاه الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف، وإذا قلنا إن سبب {الرجفة} كان عبادة العجل كان الضمير في قوله: {اتهلكنا} له وللسبعين، و{السفهاء} إشارة إلى العبدة من بني إسرائيل، وكذلك إذا كان سببها قول بني إسرائيل له قتلت هارون، وإذا كان سبب الرجفة طلبهم الرؤية وتشطههم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل فالضمير في قوله: {أتهلكنا} يريد به نفسه وبني إسرائيل، أي بالتفرق والكفر والعصيان يكون هلاكهم، ويكون قوله: {السفهاء} إشارة إلى السبعين، وروي أن السبعين لم يكن فيهم من زاد على الأربعين ولا من قصر عن العشرين، وروي عن علي بن أبي طالب أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم، وقالت فرقة: إن موسى عليه السلام لما أعلمه الله عز وجل أن السبعين عبدوا العجل تعجب وقال: {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء} أي الأمور بيدك تفعل ما تريد، وقيل: إن الله تعالى لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال موسى: أي رب ومن أخاره؟ قال أنا، قال موسى: فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك ويحتمل أن يشير بها إلى قولهم: أرنا الله إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرجفة، وفي هذه الآية رد على المعتزلة، و{اغفر} معناه ستر.

.تفسير الآية رقم (156):

{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)}
{اكتب} معناه أثبت واقض، والكتب مستعمل في ما يخلد، و{حسنة} لفظ عام في كل ما يحسن في الدنيا من عافية وغنى وطاعة لله تعالى وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها ولا مرمى وراءها و{هُدنا} بضم الهاء معناه تبنا، وقرأ أبو وجزة {هِدنا} بكسر الهاء ومعناه حركنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك، وهو مأخوذ من هاد يهيد إذا حرك، وقوله تعالى: {قال عذابي أصيب به من أشاء} الآية، قال الله عز وجل: إن الرجفة التي أنزلت بالقوم هي عذابي أصيب به من شئت ثم أخبر عن رحمته، ويحتمل وهو الأظهر أن الكلام قصد الخبر عن عذابه وعن رحمته من أول ما ابتدأ، ويندرج أمر أصحاب الرجفة في عموم قوله عند {عذابي أصيب به من أشاء} وقرأ الحسنَ وطاوس وعمرو بن فائد {من أساء} من الإساءة أي من عمل غير صالح، وللمعتزلة بهذه القراءة تعلق من وجهين: أحدهما إنفاذ الوعيد، والآخر خلق المرء أفعاله وأن أساء لا فعل فيه لله، وهذان التعلقان فيهما احتمال ينفصل عنه كما ينفصل عن سائر الظواهر إلا أن القرأة أطنبوا في التحفظ من هذه القراءة، وقال أبو عمرو الداني: لا تصح هذه القراءة عن الحسن وطاوس، وعمرو بن فائد رجل سوء، وذكر أبو حاتم أن سفيان بن عيينة قرأها مرة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقبري وصاح به وأسمعه فقال سفيان: لم أدر ولم أفطن لما يقول أهل البدع وهذا إفراط من المقربين وحملهم على ذلك شحهم على الدين وظنهم أن الانفصال عن تعلق المعتزلة متعذر.
ثم وصف الله تعالى رحمته بأنها {وسعت كل شيء} فقال بعض العلماء: هو عموم في الرحمة وخصوص في قوله: {كل شيء} والمراد من قد سبق في علم الله أن يرحمه دون من سواهم، وقال بعضهم: هو عموم في رحمة الدنيا لأن الكافر والمؤمن والحيوان كله متقلب في رحمة الله الدنياوية، وقالت فرقة: قوله: {ورحمتي} يراد به التوبة وهي خاصة على هذا في الرحمة وفي الأشياء لأن المراد من قد تقع منه التوبة، وقال نوف البكالي: إن إبليس لما سمع قول الله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} طمع في رحمة الله فلما سمع {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة} يئس إبليس وبقيت اليهود والنصارى، فلما تمادت الصفة تبين أن المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويئس اليهود والنصارى من الآية، وقال نحوه قتادة، وقوله: {فسأكتبها} أي أقدرها وأقضيها، وقال نوف البكالي: إن موسى عليه السلام قال يا رب جعلت وفادتي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال نوف البكالي: فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم، وقوله: {يتقون} في هذه الآية قالت فرقة: معناه يتقون الشرك، وقالت فرقة: يتقون المعاصي.
قال القاضي أبو محمد: ومن قال: الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة، ويرد عليه من الآية شرط الأعمال بقوله: {ويؤتون الزكاة}، ومن قال المعاصي ولابد خرج إلى قول المعتزلة، والصواب بأن تكون اللفظة عامة ولكن ليس بأن نقول ولابد من اتقاء المعاصي بل بأن نقول مع أن مواقع المعاصي في مشيئة الله تعالى، ومعنى: {يتقون} يجعلون بينهم وبين المتقى وقاية وحجاباً، فذكر الله تعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها، وقوله: {ويؤتون الزكاة} الظاهر من قوله: {يؤتون} أنها الزكاة المختصة بالمال وخصها هنا بالذكر تشريفاً لها وجعلها مثالاً لجميع الطاعات، وقال ابن عباس فيما روي عنه: ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم.

.تفسير الآية رقم (157):

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}
هذه الألفاظ أخرجت اليهود والنصارى من الأشتراك الذي يظهر في قوله: {فسأكتبها للذين يتقون} [الأعراف: 156] وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وابن جبير وغيرهما، و{يتبعون} معناه في شرعه ودينه، و{الرسول} و{النبي} اسمان لمعنيين فإن الرسول، أخص من النبي هذا في الآدميين لاشتراك الملك في لفظة الرسول، و{النبي} مأخوذ من النبأ، وقيل لما كان طريقاً إلى رحمة الله تعالى وسبباً شبه بالنبيء الذي هو الطريق، ونشدوا:
لأصبح رتماً دقاق الحصى ** مكان النبيء من الكاثب

وأصله الهمز ولكنه خفف كذا قال سيبويه وذلك كتخفيفهم خابية وهي من خبأ، واستعمل تخفيفه حتى قد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنبروا اسمي،» وقدم الرسول اهتماماً بمعنى الرسالة عند المخاطبين بالقرآن وإلا فمعنى النبوءة هو المتقدم وكذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء بن عازب حين قال آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وبنبيك الذي أرسلت» ليترتب الكلام كما ترتب الأمر في نفسه، لأنه نبئ ثم أرسل، وأيضاً في العبارة المردودة تكرار الرسالة وهو معنى واحد، و{الأُّمي} بضم الهمزة قيل نسب إلى أم القرى وهي مكة.
قال القاضي أبو محمد: واللفظة على هذا مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغير مضمنة معنى عدم الكتابة، وقيل هو منسوب لعدمه الكتابة والحساب إلى الأم، أي هو على حال الصدر عن الأم في عدم الكتابة، وقالت فرقة هو منسوب إلى الأمة، وهذا أيضاً مضمن عدم الكتابة لأن الأمة بجملتها غير كاتبة حتى تحدث فيها الكتابة كسائر الصنائع، وقرأ بعض القراء فيما ذكر أبوحاتم الأَمي بفتح الهمزة وهو منسوب إلى الأم وهو القصد، أي لأن هذا النبي مقصد للناس وموضع أم يؤمونه بأفعالهم وتشرعهم، قال ابن جني: وتحتمل هذه القراءة أن يريد الأمي فغير تغيير النسب.
والضمير في قوله: {يجدونه} لبني إسرائيل والهاء منه لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد صفته ونعته.
وروي أن الله عز وجل قال لموسى قل لبني إسرائيل أجعل لكم الأرض مسجداً وطهوراً وأجعل السكينة معكم في بيوتكم وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم، فأخبر موسى بني إسرائيل فقالوا: إنما نريد أن نصلي في الكنائس وأن تكون السكينة كما كانت في التابوت وأن لا نقرأ التوراة إلا نظراً، فقيل لهم فنكتبها للذين يتقون يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي عن عبد الله بن عمر، وفي البخاري أو غيره أن في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً} وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو يصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فنقيم به قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وأعيناً عمياً.
وفي البخاري «فنفتح به عيوناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً» ونص كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إلا أنه قال: {قلوباً غلفاً وآذاناً صموماً}، قال الطبري وهي لغة حميرية وقد رويت {غلوفياً وصمومياً}.
قال القاضي أبو محمد: وأظن هذا وهماً وعجمة.
وقوله تعالى: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} يحتمل أن يريد ابتداء وصف الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يجعله متعلقاً ب {يجدونه} في موضع الحال على تجوز، أي يجدونه في التوراة أمراً بشرط وجوده فالمعنى الأول لا يقتضي أنهم علموا من التوراة أنه يأمرهم وينهاهم ويحل ويحرم، والمعنى الثاني يقتضي ذلك فالمعنى الثاني على هذا ذم لهم، ونحا إلى هذا أبو إسحاق الزجّاج، وقال أبو علي الفارسي في الإغفال {يأمرهم} عندي تفسير لما كتب من ذكره كما أن قوله تعالى {خلقه من تراب} [آل عمران: 59] تفسير للمثل، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في {يجدونه} لأن الضمير للذكر والاسم، والذكر والاسم لا يأمران.
قال القاضي أبو محمد: وما قدمته من التجوز وشرط الوجود يقرب ما منع منه أبو علي، وانظر و{بالمعروف} ما عرف الشرع، وكل معروف من جهة المروءة فهو معروف بالشرع، فقد قال صلى الله عليه وسلم «بعثت لأتمم محاسن الأخلاق» و{المنكر} مقابله.
و{الطيبات} قال فيها بعض المفسرين إنها إشارة إلى البحيرة ونحوها، ومذهب مالك رحمه الله أنها المحللات فكأنه وصفها بالطيب إذ هي لفظة تتضمن مدحاً وتشريفاً، وبحسب هذا يقول في {الخبائث} إنها المحرمات وكذلك قال ابن عباس {الخبائث} هي لحم الخنزير والربا وغيره، وعلى هذا حلل مالك المتقذرات كالحيات والخنافس والعقارب ونحوها، ومذهب الشافعي رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير بل يراها مختصة فيما حلله الشرع، ويرى {الخبائث} لفظاً عاماً في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى، والناس على هذين القولين إلا أن في تعيين الخبائث اختلافاً ليس هذا موضع تقصيه.
وقوله تعالى: {ويضع عنهم إصرهم} الآية، {يضع} كأن قياسه أن يكون {يضِع} بكسر الضاد لكن رده حرف الحلق إلى فتح الضاد، قال أبو حاتم وأدغم أبو عمرو {ويضع عنهم} العين في العين وأشمها الرفع وأشبعها أبو جعفر وشيبة ونافع، وطلحة ويذهب عنهم إصرهم، و{الإصر} الثقل وبه فسر هنا قتادة وابن جبير ومجاهد، و{الإصر} أيضاً العهد وبه فسر ابن عباس والضحاك والحسن وغيرهم، وقد جمعت هذه الآية المعنيين فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال، وحكى أبو حاتم عن ابن جبير، قال: {الإصر} شدة العبادة.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والناس {إصرهم} وقرأ ابن عامر وحده وأيوب السختياني ويعلى بن حكيم وأبو سراج الهذلي وأبو جعفر {آصارهم} بالجمع لما كانت الأعمال كثيرة كانت أثقالها متغايرة، ومن وحد الإصر فإنما هو مفرد اسم جنس يراد به الجمع، قال أبو حاتم: في كتاب بعض العلماء {أصرهم} واحد مفتوح الهمزة عن نافع وعيسى والزيات وذلك غلط، وذكرها مكي عن أبي بكر عن عاصم وقال: هي لغة.
{والأغلال التي كانت عليهم} عبارة مستعارة أيضاً لتلك الأثقال كقطع الجلد من أثر البول، وأن لا دية ولابد من قتل للقاتل، وترك الأشغال يوم السبت، فإنه روي أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلاً يحمل قصباً فضرب عنقه، هذا قول جمهور المفسرين، وهذا مثل قولك طوق فلان كذا إذا ألزمه، ومنه قول الشاعر: [مجزوء الكامل]
إذهب بها إذهب بها ** طوقتها طوق الحمامه

أي لزمك عارها ومن هذا المعنى قول الهذلي:
فليس كعهد الدار يا أم مالك ** ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل

وعاد الفتى كالكهل ليس بقابل ** سوى الحق شيئاً فاستراح العواذل

يريد أوامر الإسلام ولوازم الإيمان الذي قيد الفتك كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال ابن زيد: إنما المراد هنا ب {الأغلال} قول الله عز وجل في اليهود {غلت أيديهم} [المائدة: 64] فمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم زالت عنه الدعوة وتغليلها.
ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين فقال: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه} وقرأ الجحدري وسليمان التيمي وقتادة وعيسى {عزروه} بالتخفيف، وجمهور الناس على التشديد في الزاي، ومعناه في القراءتين وقروه، والتعزير والنصر مشاهدة خاصة للصحابة، واتباع النور يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة، و{النور} كناية عن جملة الشرع، وقوله: {معه} فيه حذف مضاف والتقدير مع بعثه أو نبوته أو نحو هذا، وشبه الشرع والهدى بالنور إذ القلوب تستضيء به كما يستضيء بالنور، و{المفلحون} معناه الفائزون ببغيتهم، وهذا يعم معاني الفلاح فإن من بقي فقد فاز ببغيته.